السؤال: الزاني والقاتل وآكل مال اليتيم إذا لم يتوبوا هل يأخذون صحائفهم باليمين أم بالشمال؟ وصاحب البدعة إذا لم يتب هل يأخذ الصحيفة باليمين أو بالشمال؟ وما صحة الحديث: {
إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدعها} أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
الجواب: هذه قضية فيها إشكال، وهي أننا قلنا: أن أصحاب الكبائر هم من أهل الوعيد.
وداخلون في الوعيد فيأتي الإشكال عند بعض الناس، يقول: عندما يموت الإنسان تأتيه الملائكة، إما أن تأتيه ملائكة الرحمة، وهذا ليس فيه إشكال،إن جاءته باعتبار أنه من المقربين أو من أصحاب اليمين. وهذا واضح.
فالقسم الرابع في سورة فاطر، الذين هم الكفار -أصحاب الشمال- مصيرهم معروف.
لكن الإشكال في الثالث الذي في سورة فاطر أي: الظالم لنفسه.
فمثلاً: مرتكب الكبيرة عند الموت هل يموت ويُتوفى على أنه من أصحاب اليمين أم على أنه من أصحاب الشمال؟ فالزاني وشارب الخمر والمهمل في صلاة الجماعة ومن يعق والديه ومن يتعامل بالربا، هذا نحن متفقون قطعاً أنه ليس من المقربين أو السابقين.
فإما أنه في أصحاب اليمين، وهذا فيه إشكال، إذ كيف يوضع معهم، وهو متوعد أنه من أهل النار.
وإن قلنا: أنه مع الكفار، فهؤلاء كفار وهو ليس بكافر.
فنقول: حل هذا الإشكال من جهتين:
الجهة الأولى: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في القرآن يعبر ويبين لنا أعظم الأمور، وغاياتها، أي: عندما يتكلم عن المؤمنين يعطينا غاية وكمال الإيمان, وعندما يتكلم عن الشرك والكفر فإنه يعطينا غاية وكمال الكفر وحقيقتة الكاملة، ولا يبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما كان دون ذلك من درجات، مثل البيان الشافي الكامل الكافي لهؤلاء.
فهذا القرآن فرقان يفرق بين الكفار المؤمنين، فهما خطان واضحان متمايزان، لكن كون أهل الوجوه أو الصحائف المبيضة بعضها أكثر بياضاً من بعض، وكون هذه القلوب بعضها أكثر إيماناً من بعض، فهذا شيء آخر غير مسألة بيان هذا من ذاك.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبين لنا المؤمنين أصحاب الدرجة العليا في الإيمان، وعندما يتكلم عن الكافرين يبين لنا الصورة المطلقة من الكفر، وهم الجاحدون المكذبون الذين لا يعرفون الله أبداً.
وأما ما دون ذلك فالتفصيل متروكٌ فيه، وليس هو السائد والأغلب في القرآن، ولكن جاءت السنة ففصلت فيه أكثر.
الجهة الثانية: أن هذه مراحل وعقبات طويلة، فلا ننظر لها من زاوية أخذ الصحائف، أو ملائكة العذاب عندما تأتيه فقط، بل نقول: الإنسان خاتمته بمجموع أعماله -بمجموع العمل الصالح أو مجموع العمل السيئ- فهذا المذنب لو فرضنا أنه آكل مال يتيم،أو زانٍ هذا إن كان مجموع عمله -والله تعالى عليم بما يفعلون: ((
لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)) [الحاقة:18]، وقال تعالى: ((
وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)) [الأنبياء:47] وقال تعالى: ((
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً)) [يونس:44] وقال تعالى: ((
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)) [النساء:40] ولا يضيع الله تعالى عملاً من عملك-.
فإن كان هذا الإنسان مجموع أعماله تغطي على تلك الكبيرة ولا تؤثر فيها، فهذا يكون حشره وموته؛ مع أصحاب اليمين ويأتونه ملائكة الرحمة ليحشر ويصنف مع أصحاب اليمين، وهذا مع وجود الكبيرة، لأن حسناته كثيرة غطت على سيئاته، فهذا احتمال.
والاحتمال الآخر: أنه ينال في الدنيا من العذاب، والابتلاء الذي يعاقب به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أصحاب الذنوب، ثم يعذب في سكرات الموت، وقد لا يكفي هذا لتكفير هذه الخطيئة، بل زيادة على ذلك أنه يعذب ويمحص في قبره -نسأل الله العفو والعافية- لأن القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران.
وبعض أهل الكبائر لا يكفي فيه عذاب الدنيا والنصب والهم والغم، وما يبتلى به عند الموت، ولا ما يبتلى به في قبره من العذاب، بل يعذب في عرصات القيامة، فيكون المؤمنون في ظل العرش، يوم لا ظل إلا ظل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -وهو ظل العرش- وفي ذلك الأمن: ((
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)) [الانبياء:103] فرحين آمنين مطمئنين، وأما هو فهو خائف وجل يعاني من العذاب: من عذاب الموقف وأهواله، ومن كربات يوم القيامة، وما أعظمها من أهوال.
ولكن إذا جاءت الصحف ونصبت الموازين وتجلى الرحمن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لفصل القضاء، قد يُكتفى بما عذب به في الموقف والقبر، وعند الموت، وفي الدنيا ويُعفى عنه. فهذا أيضاً درجة.
ودرجة أخرى، أنه قد لا يكتفى بذلك، بل يُزاد على ذلك بأن يحاسبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويناقشه، فيعذب ويقرر بذنوبه، وتشهد على بعضهم جوارحهم، وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون، ثم يأتي يأخذ الصحيفة بشماله، ويأتي لجواز الصراط أو الجسر: ((
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً))[مريم:71] فهو يريد أن يتجاوز فتختطفه الكلاليب -نسأل الله العفو والعافية- زيادة على ذلك لوجود الذنوب والكبائر، ولأنها تطغى على الحسنات فاستحق أن يدخل النار -نسأل الله العفو والعافية-.
ثم الذين يُخرجون من النار -وقد اتفقنا أن الموحد لا يخلد في النار، ولا يبقى فيها أبد الآبدين كالكفار، وإنما يبقى فيها أهلها الذين هم أهلها، وهم الكفار والمشركون ومنهم تاركو الصلاة كما بينا- هؤلاء أيضاً درجات، فالعذاب في النار دركات، وليسوا سواءً، وكذلك الخروج ليس سواءً، فالذي في قلبه أدنى مثقال ذرة أسرع خروجاً من الذي في قلبه أدنى أدنـى مثقال ذرة، وهذا يخرج قبل من في قلبه أدنى أدنـى أدنى مثقال ذرة كما سمعنا في الحديث الصحيح عن
أنس رضي الله عنه.
إذاً المسألة تتفاوت وتتدرج في مقامات وعقبات، وكلها عقبات أمام العاصي -نسأل الله العفو والعافية-.
فيجب على كل إنسان يعصي الله تعالى بهذه الكبائر، أن يتصور هذه العقبات، وهذه الأهوال أمامه، وأن يبادر ويمحو هذا كله بالتوبة النصوح كما تقدم، فالتوبة تجبُّ ما قبلها، والإسلام يجبُّ ما قبله , والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فإذا لقي الله تعالى تائباً، ولو لم يتب إلا قبل أن يغرغر -ولننظر إلى الله، وسعة فضله، كيف نخطئ نحن على أنفسنا بأن لا نتوب ولا نستغفر- فمن تاب قبل أن يغرغر وقبل أن تصل الروح إلى الحلقوم، غفر الله تعالى له وقبل توبته، وهو يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
فإذاً الواجب المبادرة إلى التوبة والاستغفار من هذه الكبائر.
وأما صاحب البدعة فهو كصاحب الكبيرة كما ذكرنا، وهذا إذا كانت البدعة لا تخرج من الملة كما ذكرنا، وإذا كانت بدعة مكفرة فهو من الكفار ومن الصنف الثالث في سورة الواقعة، والرابع في سورة فاطر.
وأما حديث: {
إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدعها} فالحديث صحيح، وممن رواه بطرقه الإمام
ابن أبي عاصم رحمه الله تعالى في كتابه:
السنة، وجاء في بعض الروايات حجب، وفي بعضها حجز، وهذا دليل على خطر البدعة وأنها أخطر من الذنوب الأخرى.